ليس من البرّ في شيءٍ ـ ونحن نتكلّم على أثر من آثار الهَمْدانيّ الموقوف عليها ـ تَرْكُ طلبِ شآبيبِ الرحمة شُؤْبوباً شُؤْبوباً على ثُلّةٍ من أساطين العلم كان لهم عظيمُ الأثر في فُشُوِّ ذِكْر الهَمْدانيّ وإشهار ما لم يُحجب عنّا من تآليفه النّفيسة؛ فأمّا أوّل هؤلاء الأساطين فآخرُهم بنا عهداً علّامة الجزيرة العربيّة بلا منازعة ولا مدافعة الشّيخ حَمَد الجاسر روّح الله روحه، الذي أخرج من كُتب الهَمْدانيّ كتابَ الجوهرتين العتيقتين المائعتين البيضاءِ والصّفراء في حلّة قشيبةٍ لا أختَ لها ولا بنت عمّ، وكذا قدّم لكتابه (صفة جزيرة العرب) مقدّمة جليلة عالية؛ مقدّمة من شاء الانتفاع والإفادة، والنّظر في أفانين من العلم عظيمةِ الجنى، وآنَسَ رُشْداً في نُصْح ناصحٍ، فعليه بقراءتها غير ما مرّة.
وأمّا ثاني هؤلاء الأساطين فألصقهم بنا سكناً وأقربهم منّا مهجعاً القاضي محمّد الأكوع، رحمه الله، الذي أنفق حياته في تتبّع آثار الهمدانيّ على ندرة المصادر بين يديه، وقلّة الزّاد والبَتات فيمن حواليه، وكثرة مَن يدّعي من الدّخلاء.
وأمّا ثالثهم فالشّيخ محبّ الدّين الخطيب الذي نهض لتحقيق الجزء العاشر من الإكليل قبل نحو نصف قرن، فقرأه قراءة سَدَّ بها ثُلَمَه، وأماط عن أصله كثيراً من أسقامه، حتّى خرج، وهو من الحُسْن، البدر في تمامه.
وأما رابعهم فالعلّامة المستشرق داود هنريك موللير الذي أخرج قطعةً من الإكليل وصفة جزيرة العرب قبل نحو ثلاثين ومئة سنة؛ وهو القائل عند فراغه من تحقيق الصفة وطبعها قبل أن يلحق بها فهارسها:« كملت الأرجوزة وكمل بكمالها كتاب صفة جزيرة العرب والحمد لله رب العالمين وصلواته على محمّد خاتم النّبيّين وآله وصحبه الطّاهرين وسلام، وكان الفراغ من طبع كتاب صفة جزيرة العرب في سلخ شهر أيّار سنة 1884 المسيحيّة بعناية الفقير إلى رحمة الله تعالى داود هنريك موللير معلّم ألسن الشرقيّة في دار الفنون في مدينة وِيَنا المحروسة ويتلوه في ما بعدُ فهرست أسماء الأماكن والجبال والأنهار وفهرست أسماء الرجال والنساء الموجودة في هذا الكتاب».
وقد كان لهذا العلّامة ما أراد؛ إذ أخرج فهارس كتاب صفة جزيرة العرب سنة 1891م، في حلّة قشيبة جامعة تربو صفحاتها على صفحات متن الكتاب المحقّق.
على أنّ هذا الكتاب، على جودة تحقيقه وشمول فهارسه ورسوخ كَعْب مَنْ حقّقه وفهرسه، ظلّ حبيس مكتبات ضنينة بنفائس التّراث وذخائره، وتلك مكتبات دون مناوشة ما فيها خَرْط القَتاد، ولا يجرؤ على ذلك من الغَيارى على التّراث إلّا مَنْ كان ذا مال وعَتاد.
وإنّما كان معوّل كثير من الباحثين على النّشرات التي تلت تحقيق موللير، على قلّة غنائها وكثرة ما بها من الجور على متن الكتاب؛ إذ تجاهل أصحابها تحقيق موللير، تجاهلاً حجب عنهم الإفادة من عمله تماماً، وهذا غريبٌ جدّا، ولاسيّما أنّ مطبوع موللير مضبوط ضبطاً تامًّا، في حين كانت النّشرات بعدها عاريةً من الضّبط، وإن وُجد فجلّه خطأ صُراح.
واتّكاءً على جودة عمل موللير، وخشيةً من سرقة جهده تحت مُسمَّى إعادة تحقيق الأعمال الهاجعة للمستشرقين، وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها= فإنّا نقدّم عمل الرّجل مصوَّراً كما أراده، مصدّراً بترجمةٍ يسيرة لمؤلِّف الكتاب وَفق استطاعتنا، علّ الله يقيّض لخدمته مَن ينهض له بحقّه.