نَفْثَةُ مَصْدور (د. مقبل التّامّ عامر الأحمديّ)

نَفْثَةُ مَصْدور

في رثاء الدّكتور عبد الكريم الإريانيّ (من كتاب: الدّكتور)

 

كَذا فَلْيَجِلَّ الخَطْبُ ولْيَفْدِحِ الأَمْرُ
فَلَيْسَ لِعَيْنٍ لم يَفِضْ ماؤُها عُذْرُ

تَرَجَّلَ حكيمُ اليَمَن ورَجُلُ دولتها الدّكتور عبد الكريم الإِرْيانيّ لـمّا رأى الصَّغار فاشياً، تَرَجَّل أبو يزن وذَوْدان لـمّا رأى تطاول الصِّغار وقَلَّ النّظير وعَزَّ الرِّجال والفرسان، تَرَجَّل تاركاً إِرْثاً عظيماً من المجد والفَخار سيُخلَّد على تعاقب الآماد والأزمان، على الرّغم من عِظَم الفاجعة وجَور الأَيّام باخْتِطافها رُوحهُ الطّاهرة، واسْتِئْثارها بصُحْبته بعد الآن: 
وما ماتَ حتّى ماتَ مَضْرِبُ سَيْفِهِ
مِنَ الضَّرْبِ واعْتَلَّتْ عَلَيْهِ القَنا السُّمْرُ

عَرَفَهُ أَتْرابُهُ منذ طفولتِهِ نزّاعاً إلى المَجْد، توّاقاً إلى المعالي، سبّاقاً إلى التّحصيل المعرفيّ في وقتٍ كانت الأُمِّيّة ضاربةً أَطْنابها في اليَمَن، فحصل على درجة الدّكتوراه من الولايات المتّحدّة الأمريكيّة في عِلْم الوُراثة سنة 1968م، وذاك أوانٌ كانت الثّانويّة باليمن أَعَزَّ من الكبريت الأحمر، ثمّ ترّقى في سُلَّم المَجْد وتَبَوَّأ المَحَلَّة العُلْيا حتّى تَرَجُّلِهِ شامخاً، ولكنّها:
رَأَتْهُ المَنايا خَيْرَنا فاخْتَرَمْنَهُ
وكُنَّ بِتَصْيادِ الأَخايِرِ وُلَّعا

على أنّ الفاجعة برحيله لم تكن هَيِّنةً إذ بكتْهُ المَنابر والقُلُوب، وفَقَدَهُ الأَهْل والوطن، وكيف لا تتفطّر لفِراقه الأكباد وهو الرّائد الّذي لا يَكْذِب أَهْلَهُ، وهو المؤسّس للدّولة الّتي حِيل بينه وبين أن يراها قائمة الأركان، ويرى شعبَهُ يَنْعُمبها في بلدٍ كانت له سابقةٌ حسنةٌ في بناء الدّولة وانْتِهاج الشّورى منذ آلاف السّنين، وهو الأمين لشَعْبه وبلدِهِ والباني لأَمْجادِهِ:
وما كانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحِدٍ
ولكِنَّهُ بُنْيانُ قَومٍ تَهَدَّما

وليس يخفى الحُزْنُ والأَسَى اللّذان خيّما على صنعاء وهي تشهد وُصُول جثمانه الطّاهر، إذ عجّ مطار صنعاء الدّولي بالوُفُود الشّعبيّة والرّسميّة، وغصّ بالمحبّين على اختلافهم شِيْباً وشُبّاناً.
 وقد كان لافتاً على الحُضُور الحُزْنُ الشّديد حتّى بدا كلُّ واحدٍ منهم كأنّه المفجوع بفِقْدان الدّكتور وحدَه دون غيره، وإنّ كان ثمّة شخصٌ واحدٌ قد ظَفِرَ بنصيبٍ وافرٍ منَ التّأثّر وطُغْيان الأسى وانفطار الكَبِد، وهو المرافق الشّخصيّ للدّكتور منذ مطلع السّبعينيّات، وقد رأيتُ كثيرين مِنْ آل الإِرْيانيّ الأقربين يُبادرونه بالمواساة والعزاء وهم أهلُهُ؛ ويكادُ يُنازعُ هذا المرافقَ الأخوانِ باسليم: عبد الكريم وعمّار، وهما اللّذان صحِبا الدّكتور منذ وعيا عملها في مكتبه وراثةً عن أبيهما الّذي قضى عمرَهُ قبلهما وورّث الدّكتور ابْنَيْهِ وورّث ابْنَيْهِ عملَهُ.
 وقد كان لافتاً أيضاً طغيان حُضُور الدّكتور في المكان رغم فاجعة غيابِهِ على وجه الحقيقة وانعدام الرّجاء في حياته، وعندما تصدّر جثمانه الطّاهر قاعة الشّرف الّتي اعتادت على صاحبه دوماً في أثناء تَسْفارِهِ جيئةً وذهاباً، طغى على الحاضرين ما أَلِفُوه عادةً من توقيرٍ واحترام واحترازٍ شديد في إلقاء التّحيّة وتبادل عبارات التّسليم إلى غير ذلك، مع ما ظهر عليهم مِنِ انكسارٍ في النّظر إليه، وغلبة إحساسهم بتحديق الدّكتور فيهم فرداً فرداً على المعتاد منه.
 وعندما اتّجه الموكب صَوْب صنعاء وكان عظيماً رغم مُضيّ زمنٍ على عدم اعتياد النّاس لرؤية مواكبَ مماثلة، كان النّاس في الطّرقات ينظرون إليه بهيبةٍ ووَقارٍ من دون معرفة صاحبه، متيقّنين أيضاً أنّه لعظيمٍ مِنْ عُظَمائهم حُجِب عنهم اسمُهُ وصفتُهُ، وحِيل بينهم وبين معرفة صَنائِعِهِ في بَعْث تاريخهم المنسي وإحياء تُراثهم النّفيس.
ولـمّا وُوري جثمانه الثّرى واحتضنته الأرض استرجع النّاس في حُرْقةٍ وأَسًى عظيمَين قولَ الحسين مُطَيرٍ الأسديّ في مَعْن بن زائدة الشَّيبانيّ:
فيا قَبْرَ مَعْنٍ أَنْتَ أَوّلُ حُفْرَةٍ
مِنَ الأَرْضِ خُطَّتْ للسّماحةِ مَضْجِعا

ويا قَبْرَ مَعْنٍ كَيفَ وارَيْتَ جُودَهُ
وقد كانَ مِنْهُ البَرُّ والبَحْرُ مُتْرَعا

بَلَى قد وَسِعْتَ الجُودَ والجُودُ مَيِّتٌ
ولو كانَ حَيًّا ضِقْتَ حَتَّى تَصَدَّعا

فتًى عِيْشَ في مَعْرُوفِهِ بَعْدَ مَوتِهِ
كما كانَ بَعْدَ السَّيْلِ مَجْراهً مَرْتَعا

فَلَمّا مَضَى مَعْنٌ مَضَى الجُودُ وانْقَضَى

وأَصْبَحَ عِرْنِيْنُ المَكارِمِ أَجْدَعا

وقد رأيت أَتْراب الدّكتور، رحمه الله، وهم يحتشدون حول قبره النَّديّ، تتملّكهم الدّهشة وتخنقهم العَبْرة، تعلوهم مهابةُ سنٍّ عاليةٍ، ووقارُ حُلُومٍ حَنَّكته الدّهور، يذرفون الدّموع غير ملومين، مرجّعين قول مُتَمِّم بن نُويرة التّميميّ في رثاء أخيه مالكٍ: 
لقد لامَني عند القُبُورِ على البُكا
رَفِيْقي لتَذْرافِ الدُّمُوع السَّوافِكِ

وقال: أَتْبكي كلَّ قبرٍ رَأَيْتَهُ
لقَبْرٍ ثَوَى بين اللِّوَى فالدَّكادِكِ؟

فقلتُ لَهُ: إنّ الشَّجا يَبْعَثُ الشَّجا
فدَعْني فهذا كلُّهُ قبرُ مالكِ

وكنت قد عرفتُ عَظِيم اليمن وحكيمها الدّكتور عبد الكريم بن عليٍّ الإِرْيانيّ أبا يزن وذَوْدان قبل نحو خمسة عشر عاماً أيّام طَلَب العلم ببلاد الشّام، وكان صاحب الفَضْل في ذلك علّامةَ اليَمَن ومؤرّخها أخاهُ مطهّر بن عليٍّ الإِرْيانيّ، وكان الدّكتور يومئذ رئيساً للوزراء، فلمّا زرته إلى صنعاء، وكنت أتهيب لقاءه لِـما كان له من صَيْتٍ ذائع وهيبةٍ عظيمة، فضلاً على صرامته في تعاطي الأمور العامّة، وحين قابلته بصنعاء، قال لي ليرفع عنّي ما بدا عليّ من مهابته: علمت أنّك تصنع ديواناً لقبيلة مَذْحِج قبل الإسلام، فمن أهمُّ شعرائها في تلك الحِقْبة؟ فذكرت له طائفةً من الشّعراء فيهم الأَسْعر الجُعْفيّ القائل:
فلا يَدْعُني قَومي لِسَعْدِ بنِ مالِكٍ
إذا أَنا لم أُسْعِرْ عَلَيْهِمْ وأُثْقِبِ

وفيهم حكيم العَرَب في الجاهليّة الأَفْوهُ الأَوْديُّ؛ ثمّ قلتُ متعجِّلاً وهو صاحب القصيدة المشهورة الّتي مطلعها قولُهُ:
 لا يَصْلُحُ النّاسُ فَوْضَى لا سَراةَ لَهَمْ ولا سَراةَ إذا جُهّالُهُمْ سادُوا

فبادر من فورِهِ بإتمام القصيدة بلسان بَيِّنٍ وعربيّةٍ عاليةٍ وتَمَكُّنٍ عجيب، حتّى أطارَ هذا الاستحضار من فؤادي ما كنتُ قد أعددتُهُ لهذا اللّقاء، فأحسّ، رحمه الله، بذلك وتدارك الأمر قائلاً: لا بأس عليك، وسوف نعينك ما وَسِعَنا ذلك لإخراج تراث اليمن وذخائره، على ألّا تُنْشد هذا البيت عندما تُقابل غداً مَن ستُقابل من قيادة الدّولة، فليس كلّ النّاس يحبّون ما قالَهُ صاحبُك الأَفْوهُ الأَوْديّ.
 لم ينفرد يوماً برأيٍ من دون مشورة مَن حوله إلّا أن تتقاعس هِمَمُهم دون بُلُوغ مُرادِهِ، وتقصرَ بصائرهم دون رؤية ما يرى، فإذا اشتّمّ ذلك فيهم نهض وحدَه ذابًّا مدافعاً عن رأيه متحمّلاً عواقبَهُ حتّى يُرى كأنّه يسيرُ على نهجٍ يرى النّاسُ غيرَهُ، على تَرْجِيْعِهِ دوماً:
أَخاكَ أَخاكَ إِنَّ مَنْ لا أخاً لَهُ
كَساعٍ إلى الهَيْجا بِغَيْرِ سِلاحِ

رَحِم الله حكيم اليمن الدّكتور عبد الكريم الإِرْيانيّ أبا يزن وذَوْدان، ورَوَّح روحَهُ وأسكنه فسيح جِنانِهِ، وأنزلَهُ عِلِّيِّين مع الشُّهداء والصّالحين. 
 ورحم الله أمّ يزن الّتي لقيت ربّها ولحقت بزوجها بُعيد شهرٍ من رحيله، مؤثرةً صحبته حيثُ حلّ، مستوحشةً صحبة الخَلْق بعده، ضاربةً بذلك أروع قصص الوفاء وحُسن الصّحبة، مستعظمةً مُضي الأيّام من دونه، مردّدةً دوماً: 
 وكُنْتُ أَرَى كالمَوتِ مِنْ بَيْنِ ساعَةٍ فَكَيْفَ بِبَيْنٍ كانَ مِيْعادَهُ الحَشْرُ

Education - This is a contributing Drupal Theme
Design by WeebPal.