ديوان الهَمْدانيّ، الحسن بن أحمد بن يعقوب

ما لا يُدْرَكُ كُلُّهُ لا يُتْرَكُ قُلُّهُ

في منتصف القرن الرّابع الهجريّ أو نحو ذلك، نَهَضَتْ بابن خالَوَيْهِ الـهَمَذانيِّ المتوفَّى سنة 370هـ، هِـمَّةٌ عالية، حملته على التَّرْحال إلى اليَمَن إلى مدينة ذَمار، تاركًا وراءهُ الأهلَ والخِلّانَ والدِّمِنَ والدِّيار، لتَطْلاب ديوان شعر أبي محمّدٍ، الحسن بن أحمد الهَمْدانيِّ المتوفَّى سنة 334هـ، المشهور بلسان اليَمَن، على بُعْد ما بينهما من حيثُ المِصْرُ، وقُرْبِ ما بينهما مِن حيثُ العَصْر، وقد أدرك ابنُ خالَوَيْهِ طِلْبَتَهُ المنشودة، وأصاب بُغْيَتَهُ، ووقف على شعر الهَمْدانيّ، فأَطَلَّ عليه كما يُطِلُّ المرءُ على راحة يَدِهِ، ثمّ جَمَعَهُ في ستِّة أسفارٍ، بعد أن أَنْفَقَ من عُمُرِهِ باليَمَن حولَين كَرِيتَين؛ فما أَعْظَمَها مِن هِـمَّةٍ، وما أسماها مِن غاية، على الأَيْن وبُعْد الشُّقّة.

فقد ذكر الخَزْرجيُّ وصفًا دقيقًا لِـما خَلَّفَ الهَمْدانيُّ من شِعْرٍ، فقال: «ويُقالُ: إنّه وُجِدَ له بعد موتِهِ أربعةُ آلاف شعرٍ([1])، ما بين طويلٍ وقصير، في كُلِّ فَنٍّ. وكان في عَصْرِهِ يُسَمَّى الحائكَ؛ لفَصاحتِهِ وحُسْنِ شِعْرِهِ. وله ديوانُ شعرٍ يَدْخُلُ في ستّة مجلَّدات، فلمّا وَصَلَ ابنُ خالَوَيْهِ إلى اليَمَن أقام في ذَمار سنتين، وشَرَحَ ديوانَ الحسن المذكور شرحًا شافيًا، يَدْخُلُ في عشرة مجلَّدات؛ أخبرني الفقيه محمّد بن إبراهيم الصَّنْعانيّ قال: حَكَى لي مَن رآهُ في ظَفار الأشراف في خزانة كُتُبها؛ والله أعلم»([2]).

وذكر نحو ذلك القِفْطيُّ، فقال: «ولـمّا دَخَلَ الحسينُ بنُ خالَوَيْهِ الهَمَذانيُّ النَّحْويُّ إلى اليَمَن، وأقام بها بِذَمار جمع ديوانَ شِعْرِهِ وشَرَحَهُ وأَعْرَبَهُ([3]). وهذا الدّيوان بهذا الشَّرْحِ والإعراب موجودٌ عند عُلَماء اليَمَن، وهم به بُخَلاء»([4]).

على أنّ ذلك القَدْرَ الكبير من الشِّعْر الّذي خَلَّفَهُ الهَمْدانيُّ، وكذا شرح الدّيوان  الّذي صنعه ابن خالَوَيْهِ الهَمَذانيُّ، بحسب ما ذكر القِفْطيُّ والخزرجيّ فيما نقل عن الكَلاعيّ، لم يعد لهما أَثرٌ يُذكر، وإنّما بقي من ذلك كُلِّهِ أقلُّهُ، وهو ما اشتمل عليه هذا الدّيوانُ المجموعُ، الّذي سِيقت مادّتُهُ عن أُصول مخطوطةٍ، مُجْتَلَبٌ أكثرُها عن كُتُبِ الهَمْدانيِّ، والإكليل منها خاصّة، ما عدا قصيدتين اثنتين جاءتا مُنْفرِدَتَين مُسْتَقِلَّتَين، إحداهما جاءت مُفَسَّرَةً مشروحةً بشرحٍ نفيسٍ جدّا، وهي القصيدة الدّامغة، وثانيتهما وردت عاريةً منَ الشّرح، وهي قصيدةُ الجار، كما تُعرف، وعِدّة أبياتهما مجتمعتَين تُربي على سبعِ مئةِ بيتٍ، كما سيأتي الكلام عليهما مفصَّلا.

وكنتُ عُنيت قبل نحو ربع قرنٍ بآثار الهَمْدانيّ، ولا سيّما الإكليلُ، لصِلَتِهِ بالقَبيلَتين اللَّتَين جمعتُ أشعارَهما بالشّام، في أُطروحتَي الماجستير والدّكتوراه، وهما: مَذْحِج وحِـمْيَر، وحِـمْيَر منهما خاصّة؛ لوَفْرَة ما ساق لها الـهَمْدانيُّ من أشعارٍ، وما حَشْر لها ولأقيالها ومُلوكها ولحصونها وقِلاعها من أخبار، وكان لافتًا لي سَوْقُهُ أشعارًا لنفسه في كُتُبِهِ تلك، منها القصائدُ المطوَّلات، والمقاطيع والنُّتَف، والأبيات اليتيمة، وكان جَلْبُهُ لتلك الأشعار في تضاعيف السِّيَر والأخبار  مُنْسَجِمًا، وكذا جاء مُتَرْجِمًا مشاركتَهُ في أحداث عَصْرِهِ، وكاشفًا مُناهضَتَهُ خُصومَهُ منَ الطَّبَريّين والعَلَويّين، فضلًا عمّا ساقَهُ في وَصْفِهِ للمُدُن والمَحافِد، والقُصور والأوابد، كصنعاء ومارب، وغُمْدان وناعِط، وغيرها من عِمارة اليَمَن ومَصانعها.

ومنذ ذلك الحِين عَقَدْتُ العَزْم على جمع بُقْيا شِعْرِهِ، غير أنّه كان يَحولُ بيني وبين ذلك قِلَّةُ ما اجتمع لديَّ من أشعارِهِ، قياسًا على ما خَلَّفَهُ الرَّجُل، وعلى ما جمعَهُ ابن خالَوَيْهِ وشَرَحَهُ، وكنتُ أُمَنِّي النَّفْس بالعثور على شيءٍ ممّا فُقِد؛ ولَـمّا تَصَرَّمَتِ السُّنون سنةٌ تلو أخرى من دون العُثورِ على شيءٍ مُؤَمَّلٍ، وجاءت الرِّياح في بلادنا -بل في عالمنا- بما لا يَشْتَهي السَّفَن، رضيتُ منَ الغَنيمة بالإياب، ومن الدّيوان كلِّهِ ببَعْضِهِ، ومِن شرح ابن خالَوَيْهِ بما خلَّفَهُ الهَمْدانيُّ على هوامش الشِّعْر المَسوق له، من تَقْييدات وطُرَر، وتَعليقات وأَثَر.

وكانتِ القصيدة الدّامغة أوّلَ ما لـَهِجْتُ به من شعرِهِ، وظَلَّت زادي في حَلِّي وتَرحالي، وظَلَّ مَنْسوخُها على حائط بَيْتي أمام عينيّ، يَشْغَلُ منه مترًا في مترين ونصف المتر، وكانت تلك القصيدة مادّةً لأحد أبحاثي الأُوَل، وبفضلها صنعتُ مدوّنةً لآثار الهَمْدانيّ الموقوف عليها منذ ذلك الأوان، فكانت تلك المدوّنة معينًا دائم الجريان حولي، أمدّ يدي إليه كلّما حَزَبَني أمرٌ، أو أشكل عليّ شيءٌ في أنساب اليَمَن وأخبارها وأشعارها، وطبقات مُلوكها وتَبابِعتها.

والنّاظر فيما ترك الهَمْدانيُّ من آثار في فُنون كثيرةٍ، يستعظم ذلك جدًّا  ويستكثرُهُ، ولا سيّما إذا عَلِم أنّه لم يكن منَ الـمُعَمَّرين كما يُظنّ([5])، بل توفِّي بعد الخمسين، صرحّ بذلك الخَزْرجيُّ نقلًا عن الكَلاعيّ، فقال :«وتوفّي بِرَيْدة، مِن أرض هَمْدان، وكان استوطَنَها في آخر عُمُرِهِ، وكان عُمُرُهُ كُلُّهُ ستًّا وخمسين سنةً؛ هكذا قال الكَلاعيّ، ومِن كتابِهِ نَقَلْتُ مُعْظَمَ هذه التّرجمة؛ وبالله التّوفيق»([6])؛ على أنّ صاعدَ بنَ أحمد الأندلسيَّ ذَكَرَ أنّ الهَمْدانيَّ مات في سجنه بصنعاء، كما سيأتي عند الكلام على وفاته.

              وفيما سيأتي عرضٌ يشتملُ على ترجمة  الهَمْدانيّ وعلى شعرِهِ المجموع، على أنّ الحديث عن الرَّجُل نفسِهِ حديثٌ مُعادٌ، سَبَقَ عرضُهُ في مقدّمات كتبِهِ المُحَقَّقَة، ومع ذلك لا بدّ من الكلام عليه ههنا لئلّا تخلو مقدّمة ما بقي من ديوانه ممّا لا يحسن نِسيانُهُ، ولو كان مكرورًا، وفيما سيأتي ترجمة الهَمْدانيّ والكلام على شعره، مـمّا سبق لي نَشْرُهُ، أو  نَشْر بعضِهِ، قبل نحو سبعة عشر عامًا بمجلّة التّراث العربيّ، الصّادرة عن اتّحاد الكتّاب العرب بدمشق([7]):

 


([1]) قوله: «أربعةُ آلاف شعرٍ»: يريد أربعة آلاف نصٍّ شعريٍّ بين قصيدة ومُقَطَّعَة وغيرهما.

([2]) مخطوط طراز أعلام اليَمَن: (101ب).

([3]) في إِنْباه الرُّواة : «وعَرَّبَهُ وأعربَهُ»، محرّفٌ عن (وشرحه وأعربَهُ)، بدليل قوله بعده: «وهذا الدّيوان بهذا الشّرح والإعراب».

([4]) إِنْباه الرُّواة 1: 319.

([5]) مقدّمة صفة جزيرة العرب، وفيها كلامٌ عالٍ نفيسٌ جدًّا للشّيخ حَمَد الجاسر: 30-31.

([6]) في مخطوط طراز أعلام اليَمَن: (103أ).

([7]) ع95، س24، ص200- 235، 2004م.

العلامة الحسن أحمد يعقوب الهمداني
Education - This is a contributing Drupal Theme
Design by WeebPal.