الجزء السّادس من الإكليل

اهتمّ المستشرقون بكُتُب الهَمْدانيّ اهتمامًا كبيرًا لأسبابٍ كثيرةٍ، تختلف من مستشرقٍ إلى آخر، ونَقَّبوا عنها، وطلبوها في مهاجعها أشدّ طلب، حتّى تلف بعضهم في مجاهيل اليمن، وهو يحاول العثور عليها، أو على شيءٍ منها، ولا سيّما الإكليل؛ وأذكر ههنا حادثةً طريفةً لها صِلَةٌ بهذا السِّفْر النّفيس العظيم الجَريم، حكاها أحمد زكي باشا، رحمه الله، في مقدّمة تحقيقه لكتاب (الأصنام) لابن الكلبيّ 206هـ، في هذه الحادثة ما يدلّ على وَلَع المستشرقين بالمخطوطات المتعلّقة بتاريخ العرب قبل الإسلام، وشَغَفهم بتَطلابها ما وَسعهم ذلك، ومن أولئك المستشرقين كان العلّامة نولدكه، الّذي علّق حياته على العثور على كتاب الأصنام، وفي ذلك يقول أحمد زكي في مؤتمر عُقد بمدينة أثينة سنة 1912م، عند عثورِهِ على كتاب الأصنام:

«على أنّني لا أودّ إظهار هذا الكتاب إلى الوجود لأنّ الأستاذ نولدكه Noldeke قال بأنّه لا يريد أن يموت أو يرى كتاب الأصنام. وأنا أخشى أن يفي بوعده، ويحرم العلم من ثمرات كَدّه وجَدّه. فلذلك أنا أخيّره بين خطّتين: إمّا أن أُؤخّر إظهار هذا الكتاب إلى ما شاء الله، وإمّا أن يبحث الأستاذ على كتابٍ آخر، ويعلّق على وجوده ذلك الشّرط الّذي اشترطه على نفسه. وقد أخبرني الأستاذ هيس بأن صاحبنا وعد بأمرين وهما عدم الوفاء بشرطه الأوّل فيما يتعلّق بهذا الكتاب، وأنّه سيجعل مفارقته لنا معلّقة على وجود كتابٍ آخر يكون أندر من الكبريت الأحمر، مثل (سيرة ابن إسحاق)، أو كتاب (الإكليل) للهَمْدانيّ، فإنّني لا أزال أتطلّبهما، وأحلم بهما في اليقظة والمنام»([1]).

 ويُعَدُّ كتاب الإكليل أَنْبَهَ تآليف الهَمْدانيّ وأظهرها، وأكثرها فُشُوَّ ذِكْرٍ في الآفاق، ويقع في عشرة أجزاء، هي:

الأوّل: في المبتدأ وأصول أنساب العرب والعجم، ونسب ولد حِمْير.

والثّاني: في نسب ولد الهَمَيْسَع بن حِمْير.

والثّالث: في فضائل قحطان.

والرّابع: في السّيرة القديمة من عهد يَعْرُب بن قحطان إلى عهد أبي كَرِب أسعد الكامل.

والخامس: في السّيرة الوسطى، من عهد أبي كرب إلى عهد ذي نُواس.

والسّادس: في السّيرة الأخيرة، من عهد ذي نُواس إلى عهد الإسلام.

والسّابع: في التّنبيه على الأخبار الباطلة والحكايات المستحيلة.

والثّامن: في مَحافِد اليمن ومَساندها ودَفائنها وقصورها، ومراثي حِمْير والقبوريّات.

والتّاسع: في أمثال حِمْير وحِكَمِها باللّسان الحِمْيريّ.

والعاشر: في معارف هَمْدان وأنسابها وعيون أخبارها.

انتهى إلينا منها أربعة أجزاء وبعض جزء، وهي: الأوّل والثّاني، وبعض السّادس، والثّامن والعاشر؛ فأمّا الأوّلان فنُشرا نشراتٍ عدّة، شُحِنَتْ بالتّصحيف حتّى مُشاشها، ونَخَرَ داء التّحريف جسمَها، فلا يُرْكَن إلى واحدةٍ منها، ومثلهما كان الثّامن، إذ أصابه ما أصاب أخويه الأوّلين من المَسْخ والأَذى إلاّ قليلًا، وأمّا العاشر فقد نهضَ له العلاّمة محبُّ الدّين الخطيب، فقرأه وصنع فهارسه، وسَدَّ ثُلَمَه، وأماط عن أصله كثيرًا من أسقامه، حتّى خرج، وهو من الحُسْن، البدر في تمامه، غير أنّ هذا الجزء انتكس، وانفرط عِقدُهُ، وهوى على أمّ رأسه، بعد أن نشره بعضُهم نشرةً أخرى مَطْموسة، كُتب لها من الانتشار -لسوء الطّالع- ما حَجَب قُرْصَ محبِّ الدّين عن النّار، وعِلْمَهُ عن الأخيار.

            أمّا الجزء السّادس - موضوع حديثنا ههنا- المتعلّق بـ(السّيرة الأخيرة، من عهد ذي نُواس إلى عهد الإسلام) فقد وُقِف على قطعةٍ منه، من أوّلِهِ، قدرَ عشر صفحات، تتصدَّرُ مجموعًا عنوانُهُ: (الجزء السّادس من الإكليل، وهو الثّالث من سِيَر مُلوك حِمْيَر، وهو كتاب فِتَنِ حِمْيَر وسِياقةِ أخبارِها)، (تأليف أبي محمّدٍ، الحسن ابن أحمد بن يعقوب الأرحبيِّ ثمّ الهَمْدانيّ، رحمه الله)، ومع أنّ العنوان صريحٌ في دلالته على الجزء السّادس، وصريح النّسبة إلى الهَمْدانيّ، فإنّ محتواه خليطٌ من كتب شتّى، سيأتي تفصيل القول فيها عند الحديث عن المخطوط.

 

([1]) كتاب الأصنام: 35- 36.

الحسن بن أحمد الهَمْدانيّ
Education - This is a contributing Drupal Theme
Design by WeebPal.