إنّ انْتِخاب النُّصُوص العالية ممّا يَتَحوّجُهُ النَّشْءُ في كلّ الأُمَم؛ لاسْتقامة أَلْسنتهم والزّيادة في عُقُولهم، وهو أَمْرٌ كان فينا ـــ معاشرَ العرب ـــ أيّام كانتِ العربيّة تَفِيض عَنْ ذوي الطَّبْع قويَّةً في غَيْر عُنْف ولَيِّنةً في غَيْر ضَعْف، ومع ذلك كانوا يَنْتخبون نُصُوصًا يَرَوْنها تَزِيد العاقل رجاحةً والفَصِيح إبانةً، فَضْلًا عَنْ أثرها في خَلْق ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوب صلاح الحِسِّ بالكلام العالي لَدَى الفَدْم العَييّ عَنِ الحُجّة والكلام.
فكانتِ المُعلّقاتُ وخبرُها فاشٍ مُنْتشر، وكانتِ المُفضّليّات وقصّة اخْتيارها سيّارةٌ مَشْهورة، ثمّ كانَتْ كتب الاخْتِيارات الشّعريّة، ودواوين الحماسة ابْتِداءً بحماسة أبي تمّام (228هـ) حتّى حماسة القُرشيّ (1299هـ).
والحاجة إلى تِلْك الأُصُول اليوم أَعْظم، والنّاس إلى حِفْظها والنّظر فِيها أَعْوَز؛ لفِقْدان شُداة هذا اللّسان كثيْرًا مِنْ مَزايا تلقِّي الأُصُول على نَهْج القُدماء، المُعْتمد على حِفْظ المُتُون وإجازتها بشُرُوحها، لذلك لانَتْ أَلْسنة هذا النَّشْءِ، وضَعُفتْ مَلَكاتهم، وآلَ أَمْرهم إلى تعلّم العربيّة على طريقة العَجَم، فترى كثيرًا مِنْ هؤلاء يُـخْطئ في نُطْق كثيرٍ مِنْ حُرُوف الهجاء ولاسيّما (الضّاد والظّاء)، وتِلْك مِنْ أمارات العُجْمة.
وشباب اليوم أكثر شَيْءٍ ضَعْفًا إذا ما قيسوا على مَنْ قَبْلهم مِنْ أَبْناء جِلْدَتهم في كلّ صُقْع، وجُلّ الّذين يحملون مِنْهم إجازاتٍ جامعيّةً لا يكادون يَـخْتلفون عَنْ سواد النّاس إلّا قليلًا؛ واتّكاءً على ذلك فانْتِخاب المُـتُون لحِفْظها والنّظر فيها، والمُعلّقات مِنْها خاصّة، يَقْصدهم تَثْقيفًا وتَدْريبًا، عَلَّهُ يعين على جَرَيان شَيْءٍ مِنْها على أَلْسنتهم إمّا بالحِفْظ وإمّا بالقراءة والنّظر.