منذ مدّة فرغتُ بمجمع العربيّة السّعيدة من تحقيق كتاب مُسَلَّم اللّحجيّ (طبقات الزّيديّة)، على أنّني حين شرعت في العمل فيه هاتفني كثيرون وأخبروني بأنّ ثمّة من يعمل فيه وأنّ بعضهم قد فرغ من تحقيقه وطباعته، وعلمت أيضاً أنّ طالباً سجّله أطروحة ماجستير من نحو ستّ سنوات. فعلمت حينئذ كثرة الأيدي التي امتدّت إليه وكثرة الرّاغبين في إخراجه مع انعدام رؤية ذلك حقيقة بين أيدي النّاس، ومع هذا كلّه فقد مددت يدي مع الآخرين، وقلت في حينه: إن تحقيق النّص الواحد بأيدٍ كثيرة أمرٌ محمود على ما يبدو في ذلك من عُيُوب ومَذامّ؛ وكنت أعني أنّ التّحقيق هو صورةٌ لصاحبه لا لمؤلِّف الكتاب، ومِن ثَمّ فالأشخاص سيختلفون في تحقيقاتهم اختلافهم في تأسيسهم المعرفي وامتلاكهم لأدوات التّحقيق، فما بدا خيراً في الكتاب فهو منسوب إلى مؤلِّفه، وما بدا فيه من شرّ فمنسوب إلى محقِّقه، مع إمكانية انصراف المتأخِّر من المحقِّقين إلى عمل لم تُمَدَّ إليه يدٌ.
وعند الفراغ من تحقيقي للكتاب نشرت أمره في صفحتي بالفيسبوك، لا لشيء إلا لإعلان إتمام مجهود بُذِل وهَمٍّ تصرّم، وللفائدة لمن يريد الإفادة ممّن يعملون في الكتاب نفسه ولم يفرغوا منه بعد.
يُضاف إلى ذلك أنّ النّسخة التي اعتمدوا في التّحقيق هي نسخة مخرومة الأوّل والآخر وتعوزها أوراقٌ كثيرة ذهبت من متنها وأمّ عينها، في حين أنّي قد وقفت على الأصل تامًّا غير مخروم ولا مثلوم.
وموضوع الوَجَع وموطن الشّكوى أنّ الطّالب الذي كان قد سجلّ الكتاب لنيل درجة الماجستير (دراسة وتحقيق) وليس (تحقيق ودراسة) قد فرغ بمنّ الله من عمله، ودفعه للمناقشة عن تلك النّسخة السّقيمة –وهي التي تمكّن من الوقوف عليها- ولمّا كانت المناقشة ورأيت الطّالب وعليه سيماء الجادّين مع جهلي مدى إحسانه للتّحقيق لعدم وقوفي على عمله، إلّا أنّ الذي رابني أن الأستاذ المشرف على جلالة قدره -وكذا كان المناقشان- لم يأت أحدٌ منهم على ذكر أنّ أحداً ما قد فرغ من تحقيق هذا الكتاب، ولا أنّ هذا الشّخص قد وقف على أصل كتاب مُسَلَّم تامًّا كالبدر ليلة تِمّه، وإنّما ذهبوا جميعاً إلى امتداح اعتماد الطّالب على نسخة يتيمة مخرومة، وامتداح إخراج الكتاب مصلوم الرأس مبتور اليدين والرِّجلين.
مع أنّ أحدَهم لو ذكر أنّ الطّالب قد سُبِق إلى تحقيق الكتاب نظراً لطول مدّة عمله فيه، ثمّ يعقّب على ذلك بأنّ التّحقيق المذكور لم يُنْشر، وأنّ تعدّد التّحقيقات لا يُلغي فيها جهد السّابق جهد مَن تَلاهُ، وأنّ رُبّ تالٍ بذّ شأو مقدّم، إلى غير ذلك ممّا يمكن أن يُقال.
لكنّهم جميعاً امتثلوا لرأي غير صائب، ولا أدري ما هو الشّيء الذي سيورّثونه للأجيال، وهذا الجيل يعلم كتمانهم الحقّ وغمطهم جهد الآخرين مع معرفتهم إيّاه، فالمشرف يعلم والمناقشان كذلك، وقد اتّصل بي أحدهما قبل المناقشة بيوم يسألني عن أمر فراغي من الكتاب؟ فأجبته: نعم، ولكنّه محجوزٌ حتّى يُناقش الطّالب. ثمّ سألني عن صحّة عُثُوري على نسخة تامّة من الكتاب؟ فأجبته: نعم، وهي مبذولةٌ للطّالب إن أراد الوقوف عليها؟
ومع هذا كلّه فقد اختار جميعهم رُكُوب الصّعب، وترك الامتثال للحقّ، وعدم ترك أثارة طيّبة، وإظهار أمانة علميّة.
ولذا أقول إن أعظم ما يمكن أن يورّثه الأستاذ لتلامذته هو حُسْن التّوجيه والقدوة الحسنة، فأين هذا كلّه ممّا كان يا أولي الألباب؟